فصل: الفصل الثامن عشر في أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الفصل الثامن عشر في أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها:

والسبب في ذلك أن الآثار إنما تحدث عن القوة التي بها كانت أولا وعلى قدرها يكون الأثر فمن ذلك مباني الدولة وهياكلها العظيمة فإنما تكون على نسبة قوة الدولة في أصلها لأنها لا تتم إلا بكثرة الفعلة واجتماع الأيدي على العمل بالتعاون فيه فإذا كانت الدولة عظيمة فسيحة الجوانب كثيرة الممالك والرعايا كان الفعلة كثيرين جدا وحشروا من آفاق الدولة وأقطارها فتم العمل على أعظم هياكله ألا ترى إلى مصانع قوم عاد وثمود وما قصة القرآن عنهما.
وانظر بالمشاهدة إيوان كسرى وما اقتدر فيه الفرس حتى أنه عزم الرشيد على هدمه وتخريبه فتكاءد عنه وشرع فيه ثم أدركه العجز وقصة استشارته ليحيى بن خالد في شأنه معروفة فانظر كيف تقتدر دولة على بناء لا تستطيع أخرى على هدمه مع بون ما بين الهدم والبناء في السهولة تعرف من ذلك بون ما بين الدولتين وانظر إلى بلاط الوليد بدمشق وجامع بنى أمية بقرطبة والقنطرة التي على واديها كذلك بناء الحنايا لجلب الماء إلى قرطاجنة في القناة الراكبة عليها آثار شرشال بالمغرب والأهرام بمصر وكثير من هذه الآثار الماثلة للعيان يعلم منه اختلف الدول في القوة والضعف واعلم أن تلك الأفعال للأقدمين إنما كانت بالهندام واجتماع الفعلة وكثرة الأيدي عليها فبذلك شيدت تلك الهياكل والمصانع ولا تتوهم ما تتوهمه العامة أن ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها فليس بين البشر في ذلك كبير بون كما نجد بين الهياكل والآثار ولقد ولع القصاص بذلك وتغالوا فيه وسطروا عن عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخبارا عريقة في الكذب من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق رجل من العمالقة الذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشام زعموا أنه كان لطوله يتناول السمك من البحر ويشويه إلى الشمس ويزيدون إلى جهلهم بأحوال البشر الجهل بأحوال الكواكب لما اعتقدوا أن للشمس حرارة وأنها شديدة فيما قرب منها ولا يعلمون أن الحر هو الضوء وأن الضوء فيما قرب من الأرض أكثر لانعكاس الأشعة من سطح الأرض بمقابلة الأضواء فتتضاعف الحرارة هنا لأجل ذلك وإذا تجاوزت مطارح الأشعة المنعكسة فلا حر هنالك بل يكون فيه البرد حيث مجاري السحاب وأن الشمس في نفسها لا حارة ولا باردة وأنما هي جسم بسيط مضيء لا مزاج له.
وكذلك عوج بن عناق هو فيما ذكروه من العمالقة أو من الكنعانيين الذين كانوا فريسة بني إسرائيل عند فتحهم الشام وأطوال بني إسرائيل وجسمانهم لذلك العهد قريبة من هياكلنا يشهد لذلك أبواب بيت المقدس فإنها وإن خربت وجددت لم تزل المحافظة على أشكالها ومقادير أبوابها وكيف يكون التفاوت بين عوج وبين أهل عصره بهذا المقدار وإنما مثارغلطهم في هذا أنهم استعظموا آثار الأمم ولم يفهموا حال الدول في الاجتماع والتعاون وما يحصل بذلك وبالهندام من الآثار العظيمة فصرفوه إلى قوة الأجسام وشدتها بعظم هياكلها وليس الأمر كذلك وقد زعم المسعودي ونقله عن الفلاسفة مزعما لا مستند له إلا التحكم وهو أن الطبيعة التي هي جبلة للأجسام لما برأ الله الخلق كانت في تمام الكرة ونهاية القوة والكمال وكانت الأعمار أطول والأجسام أقوى لكمال تلك الطبيعة فإن طروء الموت أنما هو بانحلال القوى الطبيعية فإذا كانت قوية كانت الأعمار أزيد فكان العالم في أولية نشأته تام الأعمار كامل الأجسام ثم لم يزل يتناقص لنقصان المادة إلى أن بلغ إلى هذه الحال التي هو عليها ثم لا يزال يتناقص إلى وقت الانحلال وانقراض العالم وهذا رأي لا وجه له إلا التحكم كما تراه وليس له علة طبيعية ولا سبب برهاني ونحن نشاهد مساكن الأولين وأبوابهم وطرقهم فيما أحدثوه من البنيان والهياكل والديار والمساكن كديار ثمود المنحوتة في الصلد من الصخر بيوتا صغارا وأبوابها ضيقة وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أنها ديارهم ونهى عن استعمال مياههم وطرح ما عجن به وأهرق وقال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين يصيبكم ما أصابهم»
وكذلك أرض عاد ومصر والشام وسائر بقاع الأرض شرقا وغربا والحق ما قررناه ومن آثار الدول أيضا حالها في الأعراس والولائم كما ذكرناه في وليمة بوران وصنيع الحجاج وابن ذي النون وقد مر ذلك كله.
ومن آثارها أيضا عطايا الدول وأنها تكون على نسبتها ويظهر ذلك فيها ولو أشرفت على الهرم فإن الهمم التي لأهل الدولة تكون على نسبة قوة ملكهم وغلبهم للناس والهمم لا تزال مصاحبة لهم إلى انقراض الدولة واعتبر ذلك بجوائز ابن ذي يزن لوفد قريش كيف أعطاهم من أرطال الذهب والفضة والأعبد والوصائف عشرا عشرا ومن كرش العنبر واحدة وأضعف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب وإنما ملكه يومئذ قرارة اليمن خاصة تحت استبداد فارس وإنما حمله على ذلك همة نفسه بما كان لقومه التبابعة من الملك في الأرض والغلب على الأمم في العراقين والهند والمغرب وكان الصنهاجيون بأفريقية أيضا إذا أجازوا الوفد من أمراء زناتة الوافدين عليهم فإنما يعطونهم المال أحمالا والكساء تخوتا مملوءة والحملان جنائب عديدة.
وفي تاريخ ابن الرقيق من ذلك أخبار كثيرة وكذلك كان عطاء البرامكة وجوائزهم ونفقاتهم وكانوا إذا كسبوا معدما فإنما هو الولاية والنعمة آخر الدهر لا العطاء الذي يستنفده يوم أو بعض يوم وأخبارهم في ذلك كثيرة مسطورة وهي كلها على نسبة الدول جارية هذا جوهر الصقلبي الكاتب قائد جيش العبيديين لما ارتحل إلى فتح مصر استعد من القيروان بألف حمل من المال ولا تنتهي اليوم دولة إلى مثل هذا وكذلك وجد بخط أحمد بن محمد بن عبد الحميد عمل بما يحمل إلى بيت المال ببغداد أيام المأمون من جميع النواحي نقلته من جراب الدولة غلات السواد سبع وعشرون ألف ألف درهم مرتين وثمانمائة ألف درهم ومن الحلل النجرانية مائتا حلة ومن طين الختم مائتان وأربعون رطلا كنكر أحد عشر ألف ألف درهم مرتين وستمائة ألف درهم كورد جلة عشرون ألف ألف درهم وثمانية دراهم حلوان أربعة آلاف ألف درهم مرتين وثمانمائة ألف درهم الأهواز خمسة وعشرون ألف درهم مرة ومن السكر ثلاثون ألف رطل فارس سبعة وعشرون ألف ألف درهم ومن ماء الورد ثلاثون ألف قارورة ومن الزيت الأسود عشرون ألف رطل كرمان أربعة آلاف ألف درهم مرتين ومائتا ألف درهم ومن المتاع اليماني خمسمائة ثوب ومن التمر عشرون ألف رطل مكران أربعمائة ألف درهم مرة السند وما يليه أحد عشر ألف ألف درهم مرتين وخمسمائة ألف درهم ومن العود الهندي مائة وخمسون رطلا سجستان أربعة آلاف ألف درهم مرتين ومن الثياب المعينة ثلثمائة ثوب ومن الفانيد عشرون رطلا خراسان ثمانية وعشرون ألف ألف درهم مرتين ومن نقر الفضة ألفا نقرة ومن البراذين أربعة آلاف ومن الرقيق ألف رأس ومن المتاع عشرون ألف ثوب ومن الإهليلج ثلاثون ألف رطل جرجان اثنا عشر ألف ألف درهم مرتين ومن الإبريسم ألف شقة قومس ألف ألف مرتين وخمسمائة من نقر الفضة طبرستان والروبان ونهاوند ستة آلاف ألف مرتين وثلائمائة ألف ومن الفرش الطبري ستمائة قطعة ومن الأكسية مائتان ومن الثياب خمسمائة ثوب ومن المناديل ثلاثمائة ومن الجامات ثلاثمائة الري اثنا عشر ألف ألف درهم مرتين ومن العسل عشرون ألف رطل همذان أحد عشر ألف ألف درهم مرتين وثلاثمائة ألف ومن رب الرمان ألف رطل ومن العسل اثنا عشر ألف رطل ما بين البصرة والكوفة عشرة آلاف ألف درهم مرتين وسبعمائة ألف درهم ماسبذان والدينار أربعة آلاف ألف درهم مرتين شهر زور ستة آلاف ألف درهم مرتين وسبعمائة ألف درهم الموصل وما يليها أربعة وعشرون ألف ألف درهم مرتين ومن العسل الأبيض عشرون ألف ألف رطل أذربيجان أربعة آلاف ألف درهم مرتين الجزيرة وما يليها من أعمال الفرات أربعة وثلاثون ألف ألف درهم مرتين ومن الرقيق ألف رأس ومن العسل اثنا عشر ألف زق ومن البزاة عشرة ومن الأكسية عشرون أرمينية ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين ومن البسط المحفور عشرون ومن الزقم خمسمائة وثلاثون رطلا ومن المسايج السور ما هي عشرة آلاف رطل ومن الصونج عشرة آلاف رطل ومن البغال مائتان ومن المهرة ثلاثون قنسرين أربعمائة ألف دينار ومن الزيت ألف حمل دمشق أربعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار والأردن سبعة وتسعون ألف دينار فلسطين ثلاثمائة ألف دينار وعشرة آلاف دينار ومن الزيت ثلاثمائة ألف رطل مصر ألف ألف دينار وتسعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار برقة ألف ألف درهم مرتين أفريقية ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرتين ومن البسط مائة وعشرون اليمن ثلاثمائة ألف دينار وسبعون ألف دينار سوى المتاع الحجاز ثلاثمائة ألف دينار انتهي.
وأما الأندلس فالذي ذكره الثقات من مؤرخيها أن عبد الرحمن الناصر خلف في بيوت أمواله خمسة آلاف ألف ألف دينار مكررة ثلاث مرات يكون جملتها بالقناطير خمسمائة ألف قنطار.
ورأيت في بعض تواريخ الرشيد أن المحمول إلى بيت المال في أيامه سبعة آلاف قنطار وخمسمائة قنطار في كل سنة فاعتبر ذلك في نسب الدول بعضها من بعض ولاتنكرن ما ليس بمعهود عندك ولا في عصرك شيىء من أمثاله فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات فكثير من الخواص إذا سمعوا أمثال هذه الأخبار عن الدول السالفة بادر بالإنكار وليس ذلك من الصواب فإن أحوال الوجود والعمران متفاوتة ومن أدرك منها رتبة سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلها فيها ونحن إذا اعتبرنا ما ينقل لنا عن دولة بني العباس وبني أمية والعبيديين وناسبنا الصحيح من ذلك والذي لا شك فيه بالذي نشاهده من هذه الدول التي هي أقل بالنسبة إليها وجدنا بينها بونا وهو لما بينها من التفاوت في أصل قوتها وعمران ممالكها فالآثار كلها جارية على نسبة الأصل في القوة كما قدمناه ولا يسعنا إنكار ذلك عنها إذ كثير من هذه الأحوال في غاية الشهرة والوضوح بل فيها ما يلحق بالمستفيض والتواتر وفيها المعاين والمشاهد من آثار البناء وغيره فخذ من الأحوال المنقولة مراتب الدول في قوتها أو ضعفها وضخامتها أو صغرها واعتبر ذلك بما نقصه عليك من هذه الحكاية المستظرفة.
وذلك أنه ورد بالمغرب لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق وتقلب في بلاد العراق واليمن والهند ودخل مدينة دهلي حاضرة ملك الهند وهو السلطان محمد شاه واتصل بملكها لذلك العهد وهو فيروزجوه وكان له منه مكان واستعمله في خطة القضاء بمذهب المالكية في عمله ثم انقلب إلى المغرب واتصل بالسلطان أبي عنان وكان يحدث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الأرض وأكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند ويأتي من أحواله بما يستغربه السامعون مثل أن ملك الهند إذا خرج إلى السفر أحصى أهل مدينته من الرجال والنساء والولدان وفرض لهم رزق ستة أشهر تدفع لهم من عطائه وأنه عند رجوعه من سفره يدخل في يوم مشهود يبرز فيه الناس كافة إلى صحراء البلد ويطوفون به وينصب أمامه في ذلك الحقل منجنيقات على الظهر ترمى بها شكائر الدراهم والدنانير على الناس إلى أن يدخل إيوانه وأمثال هذه الحكايات فتناحى الناس بتكذيبه ولقيت أيامئذ وزير السلطان فارس بن وردار البعيد الصيت ففاوضته في هذا الشأن وأريته إنكار أخبار ذلك الرجل لما استفاض في الناس من تكذيبه.
فقال لي الوزير فارس إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره فتكون كابن الوزير الناشىء في السجن وذلك أن وزيرا اعتقله سلطانه ومكث في السجن سنين ربي فيها ابنه في ذلك المجلس فلما أدرك وعقل سأل عن اللحمان التي كان يتغذى بها فقال له أبوه هذا لحم الغنم فقال وما الغنم فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها فيقول يا أبت تراها مثل الفأر فينكر عليه ويقول أين الغنم من الفأر وكذا في لحم الإبل والبقر إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر فيحسبها كلها أبناء جنس الفأر ولهذا كثيرا ما يعتري الناس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عند قصد الإغراب كما قدمناه أول الكتاب فليرجع الإنسان إلى أصوله وليكن مهيمنا على نفسه ومميزا بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته فما دخل في نطاق الإمكان قبله وما خرج عنه رفضه وليس مرادنا الإمكان العقلي المطلق فإن نطاقه أوسع شيء فلا يفرض حدا بين الواقعات وأنما مرادنا الإمكان بحسب المادة التي للشيء فإنا إذا نظرنا أصل الشيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمه وقوته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه وقل ربي زدني علما وأنت أرحم الراحمين والله سبحانه وتعالى أعلم.